المبحث الأول
في حكم الاحتفال بذكرى مولد محمد صلى الله عليه وسلم.
يحتفل
جمع من الأمة الإسلامية بذكرى مولد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي
الحقيقة إن الاحتفال بمثل هذا اليوم واتخاذه عيداً بدعة منكرة قبيحة ولم
يدل على جوازها كتاب ولا سنة ولا إجماع سلف الأمة.
بل الأمة
الإسلامية في عهد القرون الثلاثة الأولى التي فضلها محمد صلى الله عليه
وسلم على غيرها مجمعة أنها لا تعرف احتفالاً ولا عيداً إلا الأضحى والفطر،
أما سواهما من الأعياد والذكريات فهو لغو غير معدود ولا معروف عندهم، بل
لا تشرئب إليها أنفسهم، ولا ترتفع إليها أعناقهم.
ذلك أنهم كانوا
شديدي الإنكار على كل من خالف الإسلام بكفر أو بدعة أو معصية، ولقوة
اعتصامهم بالكتاب والسنة خلت بيوتاتهم من البدع المنكرة، والأمور المحدثة.
وللقارئ أو القارئة أن يسألا ويقولا: ما
سبب حكمك على أن من احتفل بذكرى مولد النبي المختار محمد صلى الله عليه
وسلم أنه قد أرتكب بدعة منكرة في الدين؟ فأقول وبالله التوفيق:
1ـ النبي صلى الله عليه وسلم لم يحتفل بمولده في حياته وهو المبلغ للدين، ولم يأمر بذلك.
2ـ أن الخلفاء الراشدين لم يفعلوا هذا الاحتفال مع أنهم أحب للرسول صلى الله عليه وسلم منا.
3ـ
أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصانا بالتمسك بسنته، وأن لا نعبد الله إلا
بما شرع، وذكرى المولد لو كان فيها خير لذكر لنا رسول الله صلى الله عليه
وسلم منها خبراً، ومن تعبّد الله بما لم يشرعه لعباده وعلى لسان رسوله،
فقد اتهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقصور أو بالتقصير في تبليغ دعوة
الله.
4ـ قال الإمام مالك بن أنس ـ نوّر الله ضريحه ـ: "لا يصلح آخر
هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، فما دام أن السلف لم يفعلوا مثل هذه
البدعة المحدثة فحري بنا ألا نفعلها، وقد قال الناظم:
وكل خير في إتباع من سلف *** كل شـر فـي ابتداع من خلف 5ـ
أن يوم المولد وليلته لو كان لها مزية لاختصت بفضل معين، ثم إن محبة النبي
صلى الله عليه وسلم وتذكر سيرته لا تكون في يوم واحد بل في كل الأيام نقرأ
سيرته ونتبع ما شرعه لنا صلى الله عليه وسلم.
وقد ورد في الحديث
الصحيح الذي رواه مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله
عنهما ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم من شر ما يعلمه لهم". 6ـ
إن بعض الموالد فيها اختلاط الرجال بالنساء، وفيها الغلو بمحمد صلى الله
عليه وسلم حتى أنّ بعضهم قد يجعله في مقام الربوبية، وبعضهم يظن أن محمداً
صلى الله عليه وسلم يحضر المولد فيقومون له محييين ومرحبين، ويكون كذلك من
المنكرات مشاركة المعازف من الطبل والدف وآلات الموسيقى، وكذلك بعضهم
يستغيث بمحمد صلى الله عليه وسلم ويطلبوا منه المدد والغوث وأنه يعلم
الغيب. وكل هذه الأمور منكرة محرمة وبعضها فيها شرك بالله ـ عياذاً به
سبحانه ـ فكيف إذا اجتمعت كلها.
7ـ الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا في الحديث الصحيح فقال:
"إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"رواه النسائي بسند صحيح. ولفظه: "كل" هنا للعموم فيكون معناها أن أية بدعة
محدثة في الدين فهي بدعة وأمّا من يقول "كل" ليس المراد بها العموم فما
رأيك بقول الله تعالى:
{كل نفس ذائقة الموت} هل توجد أنفس من مخلوقات الله عز وجل لا تموت؟
8ـ
من فعل هذه البدعة فقد تشبه بأعداء الله فإن النصارى يحتفلون بعيد ميلاد
المسيح عيسى بن مريم، وقد سرت بدعتهم هذه للمسلمين فأصبحوا يحتفلون بذكرى
مولده صلى الله عليه وسلم، والرسول حذرنا من التشبه بأعداء الله فقال:
"من تشبه بقوم فهو منهم" والحديث رواه أحمد وأبو داود وجوّد إسناده ابن تيمية، وحسنه ابن حجر.
9ـ
من احتفل بذكرى المولد فقد اتهم ديننا بالنقص، ولو كان قصد هذا المبتدع
حسناً؛ فإن بدعته طعن في دين الله عز وجل وتكذيب لقوله تعالى
{اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} [المائدة: 3].
10ـ
إن الكفار أعداء الله يفرحون بإقامة هذه البدع؛ لأنهم قرءوا كتبنا
الإسلامية وعلموا أنه متى أحدث في الدين بدعة ماتت سنة من سنن المصطفى صلى
الله عليه وسلم، "وأوضح أنموذج لذلك ما ذكره الجبرتي من أن نابليون أمر
الشيخ البكري بإقامة الاحتفال بالمولد وأعطاه ثلاثمائة ريال فرنسي، وأمره
بتعليق الزينات، بل وحضر الحفل بنفسه من أوله إلى آخره..." ويعلل الجبرتي
اهتمام الفرنسيين بالاحتفال بالموالد عموماً بما "رآه الفرنسيون في هذه
الموالد من الخروج عن الشرائع، واجتماع النساء، وإتباع الشهوات، والرقص،
وفعل المحرمات" أ.ه. [حقوق النبي صلى الله عليه وسلم بين الإجلال والإخلال
(155) المنتدى الإسلامي].
11ـ إننا لو نقبنا في بداية تاريخ هذه
البدعة ومن هو أول من فعلها فسنجد أنهم الفاطميون العبيديون، وهم من
الباطنيين، وقد حكموا مصر وكان بدء حكمهم في مصر في القرن الرابع الهجري،
وقد ذكر تقي الدين أحمد بن علي المقريزي في كتابة "المواعظ والاعتبار بذكر
الخطط والآثار" (1/490) أنه كان للفاطميين في طول السنة أعياد ومواسم،
فذكرها وهي كثيرة جداً، ومنها مولد الرسول صلى الله عليه وسلم ومولد علي
وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم، ومولد الخليفة الحاضر، وقد قال ابن
كثير في البداية والنهاية في حوادث سنة (567هـ) وهي السنة التي انتهت فيها
دولتهم بموت آخرهم العاضد، قال: "ظهرت في دولتهم البدع والمنكرات، وكثر
أهل الفساد، وقلّ عندهم الصالحون من العلماء والعباد..". [الرد على
الرفاعي والبوطي، للعباد (82ـ83). وكتاب القول الفصل في حكم الاحتفال
بمولد خير الرسل، (2/451ـ452)].
وقال العلامة الشيخ محمد بخيت
المطيعي الحنفي مفتي الديار المصرية سابقاً في كتابة "أحسن الكلام فيما
يتعلق بالسنة والبدعة من الأحكام" (44ـ45) :
"مما حدث وكثر السؤال عنه
الموالد فنقول: إن أول من أحدثها بالقاهرة الخلفاء الفاطميون، وأولهم
المعز لدين الله توجه من المغرب إلى مصر في شوال سنة (361هـ)، فوصل إلى
ثغر الإسكندرية في شعبان سنة (362هـ) ودخل القاهرة لسبع خلون من شهر رمضان
فابتدعوا ستة موالد النبوي، ومولد أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب...".
[القول الفصل، إسماعيل الأنصاري (2/457ـ458)]. وبعض أهل العلم
ذكر أن أول من احتفل بذكرى مولده صلى الله عليه وسلم هو الملك المظفر "أبو
سعيد كوكبوري" ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري،
وقد قال ابن كثير في البداية والنهاية (13/ 137) عن هذا الملك وهو أبو
سعيد كوكبوري: "كان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً
هائلاً.. [إلى أن قال:] قال السبط: حكى بعض من حضر سماط المظفر في بعض
الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي، وعشرة آلاف دجاجة،
ومائة آلف زبدية، وثلاثين ألف صحن حلوى.. [إلى أن قال:] ويعمل الصوفية
سماعاً من الظهر إلى الفجر ويرقص بنفسه معهم" أ.ه [حقوق النبي صلى الله
عليه وسلم بين الإجلال والإخلال (140)]. ويمكن الجمع بين قول
من قال إن الاحتفال بالمولد النبوي أول من فعله الرافضة بنو عبيد القداح
في القرن الرابع، وبين قول من قال أول من فعله هو ملك إربل في القرن
السابع، أن يقال:
أن أول من فعله بنو عبيد القداح في مصر ثم سرت هذه البدعة إلى الشام والعراق في القرن السابع الهجري.وقد
قال ابن كثير في البداية والنهاية عن الدولة الفاطمية (11/346): "هم كفار،
فساق، فجار ملحدون، زنادقة، معطلون الإسلام جاحدون ولمذهب المجوسية
معتقدون" ا.ه. [مجموعة الرسائل والتوجيهات، محمد جميل زينو (1/199)].
وقال
ياقوت في معجمه (1/138) عن الملك المظفر صاحب إربل وقد كان من معاصريه:
"طباع هذا الأمير متضادة، فإنه كثير الظلم، عسوف بالرعية، راغب في أخذ
الأموال من غير وجهها" ا.ه
إذاًَ علمنا علم اليقين أيها القارئ
الكريم والقارئة الكريمة أن هذه البدعة تسربت للمسلمين من الكفار
العبيديين ومن ملك إربل الظالم المتعسف المبتدع، فهل يجوز لنا أن نأخذ
ديننا من مثل هؤلاء المبتدعة؟
12ـ ومن الأمور التي تجعلنا نقول إن
الاحتفال بذكرى المولد بدعة، أن إحياء بدعة المولد يفتح الباب للبدع
الأخرى والاشتغال بها عن السنن، ولهذا تجد المبتدعة ينشطون في إحياء البدع
ويتكاسلون عن السنن ويبغضونها ويعادون أهلها. [حقوق النبي صلى الله عليه
وسلم بين الإجلال والإخلال (142)].
والبدعة أحب إلى إبليس من مائة
معصية؛ لأنها تجر الإنسان إلى الشرك بالله وقد لا يعلم ذلك، ولأن صاحبها
يعتقد أنه على صواب ويجادل عن جواز بدعته، أما صاحب المعصية يعلم أن
المعصية غير جائزة وقد يتوب منها ويستغفر الله عز وجل.
13ـ يُلزَم
أصحاب بدعة المولد النبوي أن يفعلوا ذكرى لوفاته صلى الله عليه وسلم وذكرى
ليوم بعثته في نشر دين الإسلام وهلم جراً، ثم أن محمداً صلى الله عليه
وسلم توفي في شهر ربيع الأول "فلأي سبب يفرحون ـ أي أصحاب البدعة ـ
بميلاده، ولا يحزنون بموته لولا قسوة القلب"، وعلى هذا الإلزام يكون في كل
يوم ذكرى مولد أو وفاة لكل نبي وصالح وضاع ديننا بالموالد والذكريات.
المبحث الثاني
ذكر أقوال لأهل العلم في إنكار هذه البدعة
1ـ قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه من حديث جابر رضي الله عنه:
"وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" وفي رواية النسائي "وكل ضلالة في النار". 2ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم (2/123):
"وكذلك
ما يحدثه بعض الناس، إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما
محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً.. من اتخاذ مولد النبي صلى الله
عليه وسلم عيداً. مع اختلاف الناس في مولده فإن هذا لم يفعله السلف، مع
قيام المقتضي له وعدم المانع منه لو كان خيراً، ولو كان هذا خيراً محضاة
أو راجحاً لكان السلف رضي الله عنهم أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة
للرسول صلى الله عليه وسلم، وتعظيم له منا، وهم على الخير أحرص...". وتأمل رعاك الله ما قاله "مع اختلاف الناس في مولده"؛ لأن بعض أهل العلم قال:
ولد
صلى الله عليه وسلم في يوم التاسع من ربيع الأول، وبعضهم قال ولد في يوم
الثاني عشر. ولذا يلزم من يفعل هذه البدعة أن يحتفل كل يوم قيل إنه ولد
فيه محمد صلى الله عليه وسلم حتى ينال ما يريده من موافقة اليوم الذي ولد
فيه صلى الله عليه وسلم. 3ـ وقد ألف الفاكهاني رسالة
"المورد في عمل المولد" وأنكر هذه البدعة وقال:
"لا
أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء
الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين، بل هو بدعة،
أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون" إلى آخر ما قال رحمه الله
(1/ 8ـ9) من كتاب "رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي"، تحت إشراف
رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء. 4ـ وألف الشيخ إسماعيل
الأنصاري رسالة ضخمة بما يقارب (600) صفحة وذكر أن الاحتفال بالمولد بدعة،
وردّ على معظم الشبه التي يثيرها أدعياء هذه البدعة في رسالته "القول
الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل".
5ـ وممن أنكر هذه البدعة الإمام الشاطبي في كتابه "الاعتصام".
6ـ والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه "صيانة الإنسان".
7ـ والشيخ ابن باز، ومحمد ابن إبراهيم وجمع من العلماء المتقدمين والمتأخرين ـ رحمة الله عليهم أجمعين ـ.